فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}
واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لابد من تبعيد يوسف عن أبيه: وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك، ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صالحين} وفيه وجوه: الأول: أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا: إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين.
والثاني: أنه ليس المقصود هاهنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محبًا لكم مشتغلًا بشأنكم.
الثالث: المراد أنكم بسبب هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم، فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم، واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان؟ على قولين: أحدهما: أن بعض إخوته قال هذا.
والثاني: أنهم شاوروا أجنبيًا فأشار عليهم بقتله، ولم يقل ذلك أحد من إخوته، فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب: إنه شمعون، وقال مقاتل: روبيل.
فإن قيل: كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء؟
قلنا: من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين، وهذا ضعيف، لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح.
وأيضًا أنهم قالوا: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صالحين} وهدا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين، وذلك ينافي كونهم من الصبيان، ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر، وهذا أيضًا بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم، والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر، بل الجواب الصحيح أن يقال: إنهم ما كانوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنه تعالى حكى أن قائلًا قال: {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأيًا فيه فمنعهم عن القتل، وقيل يهودا، وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن.
ثم قال: {وَأَلْقُوهُ في غَيَابَةِ الجب} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ نافع: {فِى غَيَابَةِ الجب} على الجمع في الحرفين، هذا والذي بعده، والباقون: {غَيَابَةِ} على الواحد في الحرفين.
أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطارًا ونواحي، فيكون فيها غيابات، ومن وحد قال: المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف، فالتوحيد أخص وأدل على المعنى المطلوب.
وقرأ الجحدري: {فِى غَيَابَةِ الجب}.
المسألة الثانية:
قال أهل اللغة: الغيابة كل ما غيب شيئًا وستره، فغيابة الجب غوره، وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله.
والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جبًا، لأنها قطعت قطعًا ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك، وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين.
المسألة الثالثة:
الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق، اختلفوا في ذلك الجب فقال قتادة: هو بئر ببيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيرًا، وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب، لأن السيارة إذا جازوا وردوها، وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها، وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك.
المسألة الرابعة:
الالتقاط تناول الشيء من الطريق، ومنه: اللقطة واللقيط، وقرأ الحسن: {تلتقطه} بالتاء على المعنى، لأن بعض السيارة أيضًا سيارة، والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر.
قال ابن عباس: يريد المارة وقوله: {السيارة إِن كُنتُمْ فاعلين} فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئًا من ذلك، وأما إن كان ولابد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا}
فيه وجهان: أحدهما: اطرحوه أرضًا لتأكله السباع.
الثاني: ليبعد عن أبيه.
{يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قومًا صالحين} فيه وجهان:
أحدهما: أنهم أرادوا صلاح الدنيا لا صلاح الدين، قاله الحسن.
الثاني: أنهم أرادوا صلاح الدين بالتوبة، قاله السدي.
ويحتمل ثالثًا: أنهم أرادوا صلاح الأحوال بتسوية أبيهم بينهم من غير أثرة ولا تفضيل. وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم.
قوله عز وجل: {قال قائلٌ منهم لا تقتلوا يوسف} اختلف في قائل هذا منهم على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه روبيل وهو أكبر إخوة يوسف وابن خالته، قاله قتادة.
الثاني: أنه شمعون، قاله مجاهد.
الثالث: أنه يهوذا، قال السدي.
{وألقُوه في غيابة الجُبِّ} فيه وجهان:
أحدهما: يعني قعر الجب وأسفله.
الثاني: ظلمه الجب التي تغيّب عن الأبصار ما فيها، قاله الكلبي. فكان رأس الجب ضيقًا وأسفله واسعًا.
أحدهما: لأنه يغيب فيه خبره. وفي تسميته {غيابة الجب} وجهان:
الثاني: لأنه يغيب فيه أثره، قال ابن أحمر:
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالثٍ ** إلى ذاك ما قد غيبتني غيابيا

وفي: {الجب} قولان:
أحدهما: أنه اسم بئر في بيت المقدس، قاله قتادة.
الثاني: أنه بئر غير معينة، وإنما يختص بنوع من الآبار قال الأعشى:
لئن كنت في جب ثمانين قامة ** ورقيت أسباب السماء بسلم

وفيما يسمى من الآبار جبًا قولان:
أحدهما: أنه ما عظم من الآبار سواء كان فيه ماء أو لم يكن.
الثاني: أنه ما لا طيّ له من الآبار، قال الزجاج، وقال: سميت جبًّا لأنها قطعت من الأرض قطعًا ولم يحدث فيها غير القطع.
{يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين} معنى يلتقطه يأخذه، ومنه اللقطة لأنها الضالة المأخوذة.
وفي: {السيارة} قولان:
أحدهما: أنهم المسافرون سُموا بذلك لأنهم يسيرون.
الثاني: أنهم مارة الطريق، قاله الضحاك. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} الْآيَةَ.
فَإِنَّهُمْ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ تَبْعِيدٍ لَهُ عَنْ أَبِيهِ.
وَكَانَ الَّذِي اسْتَجَازُوا ذَلِكَ وَاسْتَجْرَءُوا مِنْ أَجْلِهِ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} فَرَجَوْا التَّوْبَةَ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّهُ يَعْزِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ رَجَاءً لِلتَّوْبَةِ بَعْدَهَا فَيَقُولُ: أَفْعَلُ ثُمَّ أَتُوبُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} وَحَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ.
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}
لَمَّا تَآمَرُوا عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ إبْعَادٍ عَنْ أَبِيهِ أَشَارَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَائِلُ حِينَ قَالُوا لابد مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ بِأَنْقَصِ الشَّرَّيْنِ وَهُوَ الطَّرْحُ فِي جُبٍّ قَلِيلِ الْمَاءِ لِيَأْخُذَهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ، وَهُمْ الْمُسَافِرُونَ. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {اقتلوا يوسف} الآية.
كانت هذه مقالة بعضهم: {أو اطرحوه} معناه: أبعدوه، ومنه قول عروة بن الورد:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترًا ** يغرر ويطرح نفسه كل مطرح

والنوى: الطروح البعيدة، و{أرضًا} مفعول ثان بإسقاط حرف الجر، لأن طرح- لا يتعدى إلى مفعولين إلا كذلك. وقالت فرقة: هو نصب على الظرف- وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهمًا وهذه هنا ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهامها، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض، فبين أنها أرض بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه.
وقوله: {يخل لكم وجه أبيكم} استعارة، أي إذا فقد يوسف رجعت محبته إليكم، ونحو هذا قول العربي حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه: الثكل أرأمها، أي عطفها عليه، والضمير في: {بعده} عائد على يوسف أو قتله أو طرحه، و: {صالحين} قال السدي ومقاتل بن سليمان: إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال ولم يكونوا حينئذ أنبياء، وقال الجمهور: {صالحين} معناه بالتوبة، وهذا هو الأظهر من اللفظ، وحالهم أيضًا تعطيه، لأنهم مؤمنون بثوا على عظيمة وعللوا أنفسهم بالتوبة؛ والقائل منهم قيل: هو روبيل- أسنهم- قاله قتادة وابن إسحاق، وقيل: يهوذا أحلمهم، وقيل شمعون أشجعهم، قاله مجاهد، وهذا عطف منه على أخيه لا محالة لما أراد الله من إنفاذ قضائه. و{الغيابة} ما غاب عنك من الأماكن أو غيب عنك شيئًا آخر.
وقرأ الجمهور: {غيابة الجب}، وقرأ نافع وحده {غيابات الجب}، وقرأ الأعرج {غيّابات الجب} بشد الياء، قال أبو الفتح: هو اسم جاء على فعالة، كان أبو علي يلحقه بما ذكر سيبويه من الفياد ونحوه، ووجدت أنا من ذلك: التيار للموج والفجار للخزف.
قال القاضي أبو محمد: وفي شبه غيابة بهذه الأمثلة نظر لأن غيابة جارية على فعل.
وقرأ الحسن: {في غيبة الجب} على وزن فعلة، وكذلك خطت في مصحف أبي بن كعب، ومن هذه اللفظة قول الشاعر- وهو المنخل-:
فإن أنا يومًا غيبتني غيابتي ** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

و{الجب} البئر التي لم تطو لأنها جبت من الأرض فقط.
وقرأ الجمهور: {يلتقطه بعض} بالياء من تحت على لفظ بعض، وقرأ الحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبو رجاء {تلتقطه} بالتاء، وهذا من حيث أضيف: {البعض} إلى: {السيارة} فاستفاد منها تأنيث العلاقة، ومن هذا قول الشاعر: الوافر:
أرى مرّ السنين أخذنْ منّي ** كما أخذ السرار من الهلال

ومنه قول الآخر: الطويل:
إذا مات منهم سيد قام سيد ** فذلت له أهل القرى والكنائس

وقول كعب: الكامل:
ذلت لوقعتها جميع نزار **..............................

حين أراد بنزار القبيلة، وأمثلة هذا كثير.
وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه السلام: و: {السيارة} جمع سيار. وهو بناء للمبالغة، وقيل في هذا: {الجب}: أنه بئر بيت المقدس. وقيل: غيره: وقيل: لم يكن حيث طرحوه ماء ولكن أخرجه الله فيه حتى قصده الناس للاستقاء: وقيل: بل كان فيه ماء كثير يغرق يوسف فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت عليه يوسف، وروي أنهم رموه بحبل فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه حينئذ، وهموا برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك. اهـ.